هل سمعتم عن ما يسمّى بـ " الإدراك الخفي " ؟! ، و تسمى باللغة العلمية الغربية Subliminal Perception
. هل تعلم أنه يمكننا أن ندرك أموراً كثيرة دون استخدام أي من حواسنا
الخمس التقليدية ؟! و نتفاعل معها و نتجاوب لها دون أي شعور منا بذلك ؟! .
أي أن ما نراه هو كل ما نراه ، لكن ما ندركه هو أكثر من ما نراه !.
هل تعلم أن الناس يتعرّضون للآلاف من المنبهات و الدوافع اللاشعورية يومياً ؟ . و تتمثّل هذه
المنبهات بشكل أصوات و صور و حتى روائح ، و يمكن أن تكون عبارة عن منبهات
فوق صوتية ، تحت صوتية ، إشعاعية ، رادارية ، و مايكروموجية ، و غيرها من
منبهات نتأثر بها دون إدراك من عقلنا
الواعي ! لكنها تسجّل في عقلنا الباطن ( القسم الخفي من العقل ) و يكون
لها أثر كبير على سلوكنا و تفكيرنا و شعورنا و حالتنا الصحيّة و حتى
تركيبتنا الفيزيائية !. و قد بدأت الأبحاث تشير بشكل واضح
إلى وجود مستويات متعدّدة من "الوعي" عند الإنسان ! .
حتى أثناء النوم أو في حالة التخدير الجراحي ، يمكن للإنسان أن يدرك أمور
كثيرة من حوله ! و يمكن لهذه الأمور أن تأثّر نفسياً أو جسدياً عليه ،
بشكل غير شعوري !. و قد بدؤا يوصون الأطباء مؤخراً
بعدم التحدّث عن حالة المريض في حضوره ، حتى لو كان في حالة تخدير تام ،
لأنه يدرك كل كلمة يقولونها ! و يتفاعل معها لا شعورياً ! بالرغم من نومه
العميق !.
يعود الاهتمام بهذه الظاهرة إلى أواخر القرن التاسع عشر ، حيث أقيمت أبحاث
و دراسات سيكولوجية (نفسية) كثيرة حولها . و كان أشهر هذه الأبحاث هي تلك
التي أقامها علماء مثل : "ج.ك أدامس"
و "س. فيشر" و "ب. سيديس" و "س.س بيرس" و "ج. جاسترو" و "و.بوتزل" ، و غيرهم الكثيرون الذين درسوا ظاهرة الإدراك الخفي عند الإنسان .
لكن الذي يهمنا في الموضوع هو ظاهرة غريبة برزت منذ فترة الحرب العالمية
الثانية . قام العلماء في تلك الفترة بتصميم جهاز يدعى " تاتشيستوسكوب"
TachistoScope ، ليساعدهم على تدريب الطيارين الحربيين في التمييز بين
طائرات العدو و الطائرات الصديقة بسرعة كبيرة تجعلهم يصدرون أحكاماً سليمة
بشكل فوري قبل أن يفوت الأوان , لأنهم كانوا يعانون من مشكلة كبير في
تمييز الطائرات مما أدّى إلى حصول الكثير من حوادث إطلاق نار على الطائرات
الصديقة بالخطأ !.
و يعمل هذا الجهاز ( الذي يشبه جهاز العرض السينمائي ) على إظهار صور بسرعات متفاوته ، و
يدرس العلماء ردود أفعال الأشخاص خلال رؤيتهم لهذه الصور التي تعرض عليهم
بسرعات مختلفة . لكن الأمر الذي أدهش العلماء هو أن الأشخاص استطاعوا
التعرّف على الصور و تمييزها و التجاوب
لها عندما تعرض عليهم بزمن خاطف لا يتجاوز 100/1 من الثانية ! أي على شكل
وميض ! و يتفاعل معها لاإرادياً !. و بعد أبحاث متعدّدة أقاموها فيما بعد
(حتى على الحيوانات) ، توصلوا إلى نتيجة مدهشة فعلاً ، هي أن الإنسان ( و
الكائنات الأخرى) يستطيع تمييز أي صورة أو كلمة أو شكل أو
غيرها إذا مرّت في مجال نظره بسرعة خاطفة تصل إلى 300/1 من أجزاء الثانية
!. لكن الأمر الأهم هو أن هذه الصور الخاطفة التي لا يراها و يميزها سوى
العقل الباطن ، هي أكثر تأثيراً على تصرفات الفرد و تفكيره من تلك الصور
التي يراها العقل الواعي في الحالة الطبيعية !.
جذبت هذه الظاهرة الغريبة متخصّص في مجال التسويق و الترويج الإعلاني يدعى
" جيمس فيساري" ، و خطرت في بال هذا الرجل فكرة جهنّمية سببت فيما بعد
حصول ضجّة كبيرة كانت و لازالت أكثر القضايا المثيرة للجدل !.
أقام " فيساري" في العام 1957م أبحاثه في إحدى دور السينما في نيويورك ، و
استخدم جهاز " تاتشيستوسكوب" في عرض عبارات تظهر كل خمس ثوان بشكل خاطف (
300/1 من الثانية ) على الشاشة أثناء عرض الفيلم ، أي أن المشاهدين لم
يلاحظوا ظهور هذه العبارات الخاطفة خلال مشاهدة الفيلم ، أما العبارات
التي أطلقها فكانت تقول :
" .. هل أنت عطشان ؟ .. اشرب كوكاكولا ... هل أنت جائع ؟ ... كل الفوشار ..." !.
و بعد ستة أسابيع ، بينما كانت تعرض هذه العبارات الخاطفة على الشاشة
باستمرار ، اكتشف "فيساري" خلال مراقبته لعملية البيع في الاستراحة الخاصة
لدار العرض أن نسبة مبيعات مشروبات الكوكاكولا و الفوشار قد ارتفع بشكل
كبير !
بعد هذا الاكتشاف المثير راح يتنقّل بين المؤسّسات الكبرى و الشركات
التجارية و الإعلانية ليعرض عليها فكرته الجديدة التي أسماها "الإعلان
الخفي" Subliminal Advertisement ، و قد تناولت وسائل الإعلام هذا
الاكتشاف الخطير باهتمام كبير ، و راح "فايساري" يظهر على شاشات
التلفزيون المختلفة ليتحدّث عن اختراعه العظيم ، لكن من ناحية أخرى ، ظهرت
معارضة مفاجئة لهذه الفكرة الخطيرة , و أعلن مجلس الشيوخ الأمريكي أنه يجب
ضبط هذه الوسيلة الخطيرة ، و يجب إصدار قانون خاص يحكم هذا المجال و
يستوعبه من أجل حماية "الشعب الأمريكي" ! .
ثم أطلقت وكالة الاتصالات الفدرالية تصريح ينصح بإجراء المزيد من التجارب
و الأبحاث العلمية كي يتوصّلوا لنتيجة لها مصداقية علمية قبل اتخاذ أي
قرار رسمي بهذا الموضوع و من ثم القيام بإجراء مناسب تجاهه ! . لكن بعد
فترة من الزمن ، في العام 1958م ، و وسط هذه البلبلة الكبيرة ، ظهر
"فيساري" فجأة على شاشة التلفزيون و بدا شاحب الوجه و كأنه يتلفظ بكلمات
مجبوراً عليها ، و
صرّح بأن ما يسمى " بالإعلان الخفي" الذي ابتكره ليس له ذلك التأثير الكبير على عقول الناس و أن نتائج دراسته كان مبالغ بها ! ...
و بعدها بأيام ، اختفى هذا الرجل دون أن يترك أثر !.. اختفت أمواله
المودعة في البنوك ! اختفت ممتلكاته المنقولة و غير المنقولة ! حتى أن
منزله لم يحتوي على أي أثر يخصّه ، و كأنه لم يسكن فيه أبداً ! ..أين ذهب
"فيساري" ؟ .. هل هو محتال فعلاً ، كما راحوا يشيعون عنه من خلال حملة
إعلامية كبيرة تؤكّد ذلك ؟.
لكن أتضح فيما بعد أن الكثير من الجهات الإعلانية و التجارية و غيرها ، لم
تتأثّر بحملات التكذيب و التعتيم على هذه التقنية الخطيرة التي لها فعالية
كبيرة في التأثير على الجماهير ، لا شعورياً !. و راحت تظهر من حين لآخر
أحداث و فضائح ( حتى بين السياسيين خلال حملاتهم الانتخابية ) تتناول هذا
الموضوع ، خاصة في السبعينات من القرن الماضي ! .
و تبيّن أن الرسائل الخفية هي ليست موجودة في الأفلام السينمائية فقط ، بل
في الصور أيضاً و الإعلانات المطبوعة على الورق ، بالإضافة إلى الإعلانات
و الموسيقى المسموعة عبر الكاسيتات و إرسال الراديو !.
في العام 1979م مثلاً ، ابتكر البروفيسور " هال.س.بيكر " جهاز خاص ساعد
الكثير من المتاجر الضخمة (السوبر ماركت) في كندا و الولايات المتحدة على
علاج مشكلة مستعصية طالما سببت لهم خسائر كبيرة . فكانت تعاني من الكثير
من عمليات السرقة و النشل التي تحصل من رفوفها المتعددة . و قد زوّدت هذه
المتاجر بأجهزة البروفيسور "بيكر" التي هي عبارة عن آلات صوتية خاصة تصدر
موسيقى هادئة ( سيمفونيات كلاسيكية ) ، لكنها تطلق بنفس الوقت رسائل
مبطّنة تحثّ الزبائن على عدم السرقة ! ، و هذه الرسائل هي عبارة عن عبارات
مثل : " أنا نزيه ... أنا لا أسرق .... إذا قمت بالسرقة سوف أدخل السجن
..." ، و تطلق هذه العبارات بسرعة كبيرة تجعله من الصعب تمييزها ! لكن
العقل الباطن يلتقطها و يتجاوب معها ! .
و قد نشرت مجلة " تايمز" في 10/ أيلول /1979م مقالة بعنوان " أصوات سرّية " ، أجرت تحقيق
صحفي لخمسين من هذه المتاجر الضخمة التي قامت باستخدام أجهزة البروفيسور .
و بعد إجراء إحصاء عام ، تبيّن أن السرقات انخفضت بنسبة كبيرة ! و إحدى
هذه المتاجر اعترفت بأنها قامت بتوفير مبلغ نصف مليون دولار خلال عشرة
أشهر فقط !.
رغم ظهور الكثير من الدراسات التي تثبت فاعلية هذه الأجهزة المختلفة التي
تتواصل مع العقل الباطن مباشرة عن طريق إطلاق رسائل خفية متنوعة ، إلا أن
الجماهير واجهت صعوبة في استيعاب هذا المفهوم الجديد و المعقّد نوعاً ما .
لكن هذا لم يمنع الباحثين عن إجراء دراسات سايكولوجية ( نفسية ) مختلفة
حول هذه الوسيلة الجديدة و تأثيرها على تركيبة الإنسان النفسية و مدى
التغييرات الجوهرية التي يمكن إحداثها في سلوكه و عاداته المختلفة و
تفكيره . فالعلماء النفسيين يعرفون مسبقاً حقيقة أن
الإيحاءات التي يتلقاها العقل الباطن هي أكثر تأثيراً في تغيير تصرفات
الشخص و تفكيره و سلوكه ، بينما الإيحاءات التي يتلقاها عقله الواعي هي
أقل فاعلية في حدوث هذا التغيير الجوهري . و قد توصلوا إلى هذه الحقيقة
أثناء اللجوء إلى علاج التنويم المغناطيسي الذي هو إحدى الوسائل الكثيرة
التي يتمكنون من خلالها التواصل مباشرة مع العقل الباطن و القيام ببعض
التغييرات الجوهرية في تركيبة الإنسان النفسية و السلوكية . و قد نجح علاج
التنويم المغناطيسي في مساعدة الأفراد على التخلص من الكثير من العادات
السيّئة كالتدخين مثلاً .
توصل الباحثون إلى نتيجة فحواها أن عملية إطلاق الرسائل الخفية من أجهزة
خاصة مثل التاتشيستوسكوب و غيره ، لها تأثير كبير على الأفراد ! و
فاعليتها هي كما فاعلية التنويم المغناطيسي ! لأنها تخاطب العقل الباطن
بشكل مباشر ، لكن بطريقة مختلفة ، و يمكن أن تكون أكثر
فاعلية و تأثيرا !. فعند استخدام التنويم المغناطيسي ، يجب على الطبيب
القيام ببعض الإجراءات التي تمكنه من إلهاء العقل الواعي كي يتسنى له
الدخول إلى العقل الباطن و التواصل معه . أما عملية إطلاق الرسائل الخفية
( بصرية ، صوتية ، أو غيرها ) ، فتستطيع الدخول مباشرةً إلى العقل الباطن
دون إضاعة أي وقت في عملية إلهاء العقل الواعي ! لأنه بكل بساطة لا يستطيع
إدراك تلك الرسائل أساساً ! فتمر الرسائل من خلاله مباشرة إلى العقل
الباطن دون أي عقبة أو ممانعة منه !.
نجح الخبراء في إثبات فاعلية الرسائل الخفية في سبيل استبدال الكثير من
العادات السيئة عند الأشخاص بعادات حسنة !. و لعبت دوراً كبيراً في القضاء
على الجوانب السلبية في تركيبة النفسية
للإنسان !. هذه النزعات السلبية كالشعور بالغضب أو الحقد أو اليأس أو
الخوف أو النفور من المجتمع أو عدم الثقة بالذات أو غيرها من حالات نفسية
يمكن أن تصيب الشخص خلال مرحلة مبكرة من حياته . و بما أن الرسائل الخفية
هي موجهة للعقل الباطن بشكل مباشر ، فيمكن لها أن تعمل على إعادة برمجته
من جديد و إزالة جميع السلبيات النفسية المتراكمة عبر السنين . أليس هذا
ما يفعله
الأطباء النفسيين في علاجهم للمرضى خلال جلسات متعددة و طويلة الأمد ،
معتمدين على الأساليب التقليدية ، هذا إذا استثنينا الأجور العالية جداً
؟!.
بعد إثبات هذه الحقيقة العلمية لفاعليتها و تأثيرها الكبيرين ، راحت
الشركات التجارية تنتج أشرطة فيديو و كاسيتات صوتية ( موسيقى كلاسيكية
مبطّنة برسائل و إيحاءات ) خاصة لمعالجة الحالات النفسية المختلفة ( حسب
حالة الأشخاص ) !. مثل شركة "ستيموتيك إنكوربوريشن " التي قامت في العام
1983م بطرح هذه الأنواع من الأشرطة في الأسواق و لاقت رواجاً كبيراً !.
تعمل هذه الأشرطة
على إظهار أفلام و وثائقية عن الطبيعة أو غيرها من مواضيع مهدئة ، لكنها
مبطّنة برسائل لا يدركها سوى العقل الباطن . فتظهر هذه الرسائل على شكل
ومضات لا تتجاوز مدة ظهورها 1, من أجزاء الثانية ! حيث لا يستطيع العقل
الواعي إدراكها !. لكن هذه الرسائل تجد طريقها إلى العقل الباطن
بسهولة و تقوم بعملها المناسب في معالجة الحالة النفسية التي يعاني منها الشخص !.
أما المحطة الإذاعية " سيميه ـ أف . أم " ، في كويبك ، كندا ، فمعروف عنها
بأنها تطلق رسائل خفية مبطنة في برامجها اليومية كالموسيقى مثلاً ، و هي
تعتبرها خدمة مجانية للجمهور !. تبث رسائل خفية مهدّئة للأعصاب في المساء
! و رسائل منشّطة في الصباح !